مقدمة لزوار مدونتي

أغمضت عينيّ, فاستفاقت روحي. أرتدت حلتها, ونثرت شعرها على كتفيها كخيوط الفجر على المروج, ثم تعطرت بعبق ياسمين دمشق. نظرت نحوي وقد أختفت حقيبتها طي زندها وقالت بنبرات أمٍ موصيةً طفلها: لصديقاتي الأرواح حقٌ عليّ بزيارتهن, فلن أتأخر.


خرجت من جسدي, وذهبت إلى عالم الأرواح لتلاقي صديقاتها. لكن مدينة الأرواح بدت خاليةً, وكأن أصحابها قد هجروها. فكان الصمت يدوي في أذنيّ روحي فيصدعها. فتصرخ مناديةً على صاحباتها, محاولةً أبطال حدة السكون. لكن حدة السكون دفعتها خارج أسوار المدينة. فدشرت بالبراري مفكرةً بما حل بصديقاتها ولأي سببٍ هجرن مدينتهن. حتى وجدت نفسها أمام مدينةٍ مفتوحة الأبواب فدخلتها. لكن حال هذه المدينة, كان أشد بأساً من حال مدينة الأرواح. فكانت الجثث مرميةً على أرصفتها, وشبح الموت يرفرف في أزقتها. كانت روحي تسير وتنظر بذهولٍ, كما ينظر الناجي من الغارة. حتى رأت ممرضةً تنتشل المحتضرين من بين الجثث, وقد صبغ الدم بياض حلتها. فركضت روحي نحوها كغريبٍ سمع لغته في بلد المهجر وقالت: سلامٌ على نفسي.


فنظرت نفسي نحوها وأجابتها: هلمي يا روحي وساعدينا. فقد أهلكنا هذا الوباء. أنه يصيب العقول ويميتها, يضرب النفوس ويمزقها ويشتت الأرواح ويهجرها. إن البشر قد أنصرفوا إلى اشباع أجسادهم وتزيينها. فماتت عقولهم ورحلت أرواحهم. وبقيت نفوسهم جياعاً عطشى. ترتشف الدمع خمراً وتقتات الأسى خبزاً.


هرعت روحي إليّ لتعلمني بما جرى معها. فاستليت قلمي وأخذت أكتب مستغيثاً, بكلمات تلك النفوس المحتضرة.









الاثنين، ٨ آذار ٢٠١٠

سليم الزعفراني / في حضرة الخوف






كان سليم الزعفراني بين الزعفرانيين, ككلب القطيع. يحيا دائماً وأبداً بين الأغنام, لكنه لم يكن يوماً واحداً منهم. فدعوه الزعفرانيون بسلمو المجنون. لأنه رفض الخشوع لألاهٍ لم يعرفه يوماً. فالخوف الذي لم يعرفه سلمو, كان الإلاه الأوحد للزعفرانيين. فكان خليلهم في قوتهم وفلاحهم ومضجعهم. كان يرافقهم في يقذتهم وفي أحلامهم. فكانوا يخافون من الكلام ومن السكون, من الوجود ومن العدم. فإذا ما هب نسيم الربيع, اجتاح الخوف كيان الزعفرانيين من تحول ذاك النسيم العليل إلى أعصارٍ مدمر. وإذا ما الشيب أعتلى رأس أحدهم, لطارده شبح الشيخوخة والموت إلى حين أجله. فكان ملاذ الحياة وجمال الطبيعة وأحلام المستقبل, ألذ أعداءٍ للزعفرانيين.فكانوا متحصنين منهم في بيوتهم ومتسلحين بالخوف والفشل, تأهباً لبطش أعدائهم فيهم. بأستثناء سليم.

كأرخبيلٍ وسط محيطٍ كان يجابه المد والأمواج. يبحث عن الخوف بين أنياب الضباع ووميض الصواعق
, في سكون الكهوف وسموم العقارب. في ليالي الشتاء الطويلة, حيث الظلام الدامس والبرد القارص. كان يبحث عن ذلك الشبح الذي سمم حياته وجعله كالقط بين الأرانب, ينفر منه أهله وخلانه خشيةً من أن تصيبهم اللعنة اللتي أصابته. كان وحيداً لا خل له ولا عدو. يكلم سنابل القمح ويصارع أغصان الأشجار, متأملاً بأن يرئف الخوف بحاله ويعتريه. حتى سئم سليم من حياته الجرداء. فصرخ صرخةً هزت بدويها عرش بلقيس, راجياً الخوف فيها أن يرأف بحاله ويعتريه قائلاً:

يا أيها الخوف. يا أيها الشبح الذي سمم حياتي وحولها إلى جحيم. أستحلفك بكيانك وجبروتك, أن ترئف بحالي وتحل ضيفاً على نفسي ولو للحظات. بأن تواجهني ولو بسببٍ وحيد, تعلل فيه سبب نكرانك لي وتخليك عنّي. ما هو الأثم الذي أرتكبته بحق سلطانك لتعذبني هذا العذاب؟ أجبني يا سبب تعاستي وألمي.

فأجابه الخوف بصوتٍ يقطنه العجب والأستغراب:

مالي ولك أيها الغريب؟! اطرق بابي يوماً ولم أفتح لك؟! أأتيتني جائعاً ولم أطعمك؟! أم شارداً ولم آويك ؟! كيف لك أن تنعتني بأقبح الصفات. وتلومني بأني من سبب لك الألم والأسى وأنا لم أرى وجهك أبداً؟ ها أنا جالسٌ في بيتي لا أغادره, ولا أعترض طريق أحد. فلو طرقت بابي لفتحت لك وآويتك في بيتي. فمن قصدني أطعمته من طعامي وأشربته من شرابي وألبسته من لباسي وحليي. فمن قصدني صار لي أخاً وحبيباً, ولا يغادر داري إلّا حين شاء. أما أنت أيها الغريب, لم تأتني يوماً. فلو قصدتني لفتحت لك ذراعيي وضممتك إلى صدري. وصرت لك أخاً رؤوفاً وصديقاً صدوقاً.

عندما سمع تلك الكلمات. أيقن سليم أنه كان ضالاً عن طريق الخوف






رزق الله أيوب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق